إن الطابع الذي كان سائدا في الصحراء هو الترحال على وجه العموم ومنطقة عوينة يغمان على وجه الخصوص فهذا الأخير حسب ما جاء في معجم لاردس يعني " نمط عيش يتميز بتنقل المجموعات البشرية قصد ضمان البقاء" فجميع النماذج التي أعطيت لظاهرة البداوة والترحال تجمع على حضور التنقل والماشية في هذا النوع من المجتمعات البشرية ومع تغيير مجموعة من الشروط التي كانت تعتبر عاملا رئيسيا في الترحال وتجول الانسان في الصحراء ومنطقة عوينة يغمان خصوصا إلى الاستقرار وما رافق ذلك من تغيرات اقتصادية وآجتماعية والتي انعكست على المجال فبعد ان كانت الساكنة تنتقل في اطار مجموعات من مكان لآخر بحثا عن الماء والكلأ، فقد كان لهدا التحول انعكاساته على مستوى علاقة المستقرين بالمجال بتغير التطورات الاجتماعية فبعد ما كانت الخيمة هي الأسرة ووحدة الانتاج واعادة الانتاج البيولوجي والاجتماعي بالصحراء كما كانت هي القائمة بإدماج أعضائها، الساهرة على وسائل الإنتاج بل وكانت تحتضن حتى الغرباء.
فمع تغير الشروط لجأ أبناء المنطقة إلى الإستقرار متخدين بذلك شكلا آخر من نمط العيش والمتمثل في بناء الدور السكنية بمواد بسيطة ومحلية بعد ما كانت الخيمة هي المسكن الأصلي لهم، وذلك على مقربة من مجموعة من العيون التي تتسم بدوام جريانها المائي تتوسطها واحتين من النخيل غنيتين بثمارها، فمع توفر الماء والكلأ أصبح أبناء المنطقة يمتهنون الزراعة على ضفاف نهر درعة الذي كان غنيا وصالحا لمثل هذه الزراعات حيث أصبح السكان يعملون على حصد هذه الحبوب والاحتفظ بها وخزنها في مخازن خصصت لذلك
وأمام ثقل هذه المنتوجات إضطر السكان إلى الاستقرار داخل بيوت طينية بسيطة وعليه فالبناء نتاج لمخطط عمل واعي، يبرز احتياج الانسان لفضاءات معينة لتلبية ضروراته الحياتية، كما أن المناخ يتحكم بشكل أو بآخر في التقنيات المعمارية والأشكال الهندسية وبذالك سنكتشف تقنيات ومواد البناء التي اعتمدها السكان في المنطقة.
استخراج التربة وطرق تحضيرها:
تتشابه طريقة استخراج التربة بين جميع المناطق في المغرب وشمال افريقيا عامة فهذه العملية تتجلى في أخذ الطين من سطح أو باطن الأرض باستخدام أدوات بسيطة كالفؤوس فعادة ما لا يبعد مكان استخراج التربة من الورش إلا ببعض أمتار فحسب ما جاء على لسان فيتروف بخصوص التربة التي تصلح للبناء إذ فال : "ان التربة الجيدة للبناء تكون خالية من الحصى الدقيق والرمل لأن هذه المواد تفقدها التجانس وتجعلها سريعة التفتت وغير قادرة على مقاومة العوامل الطبيعية ولهذا يجب اختيار تراب أبيض يشبه الطبشورة وأحمر داكن لأنه يتألف من سواد ناعمة ومنسجمة وغير تقيلة وعموما فإن أشكال البناء بالتراب متعددة ومختلفة منها التراب المدكوك " pise " والأجور المجفف (brique grue) والتراب المدعوس ( terre bullue) ويعتبر التحضير الأول للتراب القاسم المشترك بين كل أشكال البناء الطيني وهو يتجلى فيما يلي: بعد استخراج التربة ومزجها لتصبح متجانسة تسقى بالماء وتخلط ببعض الشوائب كالقش وتترك لتتخمر ولتتمازج جميع عناصرها فيما بينها وبما أن الطين مادة لزجة وقابلة للتفتث والاندثار بفعل الحرارة والرطوبة ولتصبح أكثر مقاومة تضاف إليه الشوائب النباتية لتكون جسما واحدا مقاوما للتغيرات المناخية.
الأساسات:
قبل الحديث عن تقنيات البناء بهذه المنطقة لابد أولا أن نتحدث عن الأساسيات باعتبارها خطوة أولى تأتي قبل الشروع في البناء.
ومن الطبيعي أن الجدران تحتاج إلى الأساسات لتضمن تباثها وديمومتها ويختلف عمق الأساسات حسب طبيعة أرضية المبنى (رملية، حجرية) وعلوه وتقله وقد أخبرنا فيتروف بخصوص تقنية الاساسات بما يلي: " يجب حفر الأساسات إلى غاية الوصول للأرصية الصلبة والتي باستطاعتها تحمل البناء وتتمثل أحسن الأرضيات في الصحراء، وهذا ما بحث عنه الإغريق ومن بعدهم الرومان ويجب أن يكون عرض الأساسات أكبر من عرض الجدارلأن المداميك السفلى تتحمل ثقل المبنى واذا لم نصل الى الصخر بعد عمق كبير نقوم ببناء قاعدة حجرية.
ومن الطبيعي جدا أيضا أن أبناء المنطقة بعد ما كانوا فيما قبل يتخدون من الخيام منازل لهم وأمام تغير الظروف الطبيعية والإجتماعية والإقتصادية لجأوا إلى بناء بيوت طينية متخدة كما سبقت الإشارة من المواد المحلية كمادة أساسية في تشييد منازلهم.
التراب المدكوك:
لقد عرف بلينوس الأقدم تقنية التراب المدكوك باسبانيا وإفريقيا كالآتي " تقوم هذه التقنية على بناء جدران طينية بداخل قالب محاط بلوحين ولهذا تعرف بالجدران المقولبة ويؤكد المؤلف الموسوعي على صلابة هذا النوع من البناء ويشهد له بمقاومته للرياح والنار وعليه فالتراب المدكوك عبارة عن تقنية تستخدم لبناء جدار طيني وتقوم على نصب لوحين متوازيين ومتباعدين من الخشب على أساس الحائط ويربطان بالحبال وتفرغ بداخلها خليط الطين المبلل ليدك بواسطة المركز، فتتداخل كل العناصر فيما بينها وتنشف من الماء ويفزغ التابوت الخشبي بعد تماسك التراب ليتم الحصول على جزء من جدار طيني وتتكرر العملية حتى يكتمل البناء ويعتبر التراب المدكوك من أسرع طرق البناء الطيني لأنه يمكن من بناء مبنى صلب ومقاوم للعوامل الطبيعية بتكاليف زهيدة في وقت وجيز وما زال يستعمل إلى يومنا هذا بالبوادي .
فالعناصر المكونة للتابوت (اللوح) هي عبارة عن ألواح خشبية يتراوح طولها ما بين 2م و2.70 م وعلوه يصل إلى 0.80 سنتيم ويرتبط اللوح من الجانبين بالكوامي.
الكوامي والوقافات: هي عبارة عن أدرع خشبية تربط بالحبال وتحيط باللوح لضمان نباته.
جبهة التابوت: عبارة عن لوح خشبي يوصع في مقدمة التابوت بهدف إغلاق باب اللوح ولضمان ثباته خصوصا أثناء عملية الدك.
الوتد أو لزازة: يستعمل الوتد بين اللوح والوقافة لتثبيت التابوت.
الحبال: استعمالها ضروري في ربط الوقافات.
الزيار: عبارة عن قطعة خشبية يساوي طولها عرض اللوح ويتجلى دوره في الحفاظ على شكل اللوح.
الثقاب: عبارة عن ثقبين يكونان بطر في اللوح ويتمثل دورهما في جر ونقل التابوت.
المركز: هو الذي نقوم بواسطته بدك التراب لينسجم فيما بينه ويخرج منه الماء الزائد فيجف بسرعة.
الأجور المجفف:
تعتبر تقنية البناء بالأجور المجفف من أسهل تقنيات البناء بالتراب حيث يوضع الاجور المجفف داخل مداميك مباشرة بعد جفافه ويثم الربط فيما بينهما بملاط طيني أو جيري، فهذه التقنية تقوم على وضع خليط طيني بداخل قالب خشبي أو معدني مربع أو مستطيل الشكل وبدون قعر وملءه عن آخره ويسوى الخليط بداخل القالب الذي ينزع للحصول على أجورة وتترك هذه الأخيرة لتجف تحت آشعة الشمس لتصبح صالحة لبناء الجدران والسقف.
ويتطلب الأجور المجفف الإختيار الجيد للتربة وقد وصف فيتروف ذلك كما يلي: " يضع الاجور المجفف من تربة خالية من الحصى والرمل لأن هذه المواد تجعله تقيلا فيتحطم بسرعة عند هطول الأمطار وعموما فإن التراب ذي الشوائب الغير المنسجمة لا يصلح لصناعة الأجور ولذلك يجب اختيار تراب أبيض يشبه الطبشورة وتراب احمر داكن ذو لون فاتح لأن هذا النوع يتكون من مواد ناعمة ومنسجمة وغير تقيلة.
وقد حدد فيتروف الوقت المناسب لصناعة الأجور المجفف في فصلي الربيع والخريف لأن الاجور يجف بشكل متساوي عكس فصل الصيف حيث تكون أشعة الشمس قوية وحارقة فيتشقق الأجور دون جفافه جيدا ويضيف حول جودة الاجور المجفف ما يلي: " لمعرفة الأجور الجيد نقوم بالتجربة التالية: نضع الأجور داخل فضاء به هواء ونتركه لمدة سنتين وهكذا الأجور الجيد الصالح للبناء هو الذي سيبقى في حالة جيدة ولا يجب البناء بأجور حديث الصنع لأنه لا يقبل الطلاء (ENDUIT) ولن يتحمل الأمطار والرياح فينهار ويتوفر هذا النوع من الأجور على قيمة خاصة لأنه من جهة مادة خفيفة ومن جهة ثانية قوي ضد عوامل الطبيعة إلى جانب هاتين التقنيتين توجد تقنية أخرى وهي تقنية البناء بالحجارة رغم انها قليلة فهي موجودة حيث كانت تجلب الحجارة من المناطق المجاورة ويوصع لها أساس متين ثم توضع حسب حجم كل واحدة. فوق الأخرى متخدا البناي أو المعلم الطين كمادة لاصقة بينهم هكذا حتى يصل إلى الطول المطلوب ويمتاز البناء الحجري بمقاومته للعوامل الطبيعية وبجاهزية المادة الأولية وبساطته وهذه التقنية اصبحت تعرف نوعا من الاندثار بسبب التقدم الذي عرفته تقنيات البناء والمواد المستعملة فيه.
الوصف الهندسي للبنايات القديمة بالمنطقة (نموذج أحد الدور)
تتميز البنايات القديمة بالمناطق الصحراوية عموما بتكثلها داخل واحات النخيل وتتميز بنية هذه البنايات القديمة من الطين بواسطة تقنية الألواح والتابوت فهي ذات شكل شبه مستطيل، وتتكون من طابقين في بعص أجزائها في حين تقدر مساحتها بحوالي 639 متر مربع هذا بالإضافة إلى أنها تحتوي على عدد كبير من الغرف. التي كانت تستقر بها أزيد من أسرة. سنحاول من خلال هذه البناية وصف شموليا، فالباب الرئيسي يبلغ حوالي 2.5م طولا ومتر ونصف عرضا وهو مصنوع من الخشب وله في الغالب قفل واحد مصنوع هو الاخر من الخشب مباشرة بعد الدخول إلى داخل البناية تشعر بإنخفاض مستواها مقارنة مع مستوى ارتفاعها في الخارج حيث نجد انفسنا داخل سقيفة طويلة وهذه الاخيرة تؤدي مباشرة إل فناء البناية لكن أثناء وجودنا بالسقيفة ترى على اليمين مكان مخصص لربط البقر وعلى اليسار مكان مخصص لصغارها (العجول) ما ان تتقدم بخطوات قليلة إلى الامام تلاحظ على اليسار باب للدرج يؤدي إلى السطح بالأعلى (انظر الصورة رقم 4) تم نتقدم بخطوة إلى الأمام فترى على اليمين واليسار مكان يسمى " دكانة" أي مكان مريح ما يسمى كذلك باللهجة الحسانية "مكروح" يتناولون فيه الشاي هذه السقيفة هي الاخرى مغطاة بالخشب وهي تؤدي مباشرة إلى فناء الدار وهو فناء شاسع يدعى" لمراح" أو "أسراك" .
يستغل هذا الأخير في المناسبات والأفراح للقيام بحفلات ورقصات "الطبل" و"الكدرة" وكذلك في الترويح عن التجار الرحل بعد سفرهم الطويل والشاق.
وما يؤكد صحة كلامنا هذا هي التسمية المحلية الذي تطلق على هذا الفناء وهي كلمة لمراح وهي مشتقة من كلمة المرح باللغة العربية إلا أنها تختلف في كيفية النطق بها وذلك ارتباطا باللهجة المحلية الصحراوية.
ويبلغ عدد الغرف التي توجد بهذا الفناء حوالي 8 غرف على الأقل وأغلب هذه الغرف تتميز بميزة أساسية وهي قصرها في العرض إذ لا يتعدى على 1.44 سم بينما يبلغ طولها حوالي 6.5م وتتوفر هذه الغرف على أبواب متوسطة الحجم مصنوعة من الخشب ولها أقفال من الحديد إضافة إلى مطبخ لطهي الطعام يدعى محليا "النوالة" يغلب على جدرانها اللون الأسود، وهذا راجع إلى الدخان الذي ينبعث من الفرن أو الكانون أو المكان المخصص للطهي، كما نجد بالبنايات صالات للإستقبال معروفة محليا بإسم المصرية تتميز باتساعها مقارنة مع الغرف الأخرى أو باقي الغرف.
كما يوجد باب صغير يؤدي إلى درج متوسط هذا الاخير يؤدي إلى الطابق العلوي للمنزل يدعى محليا "اسكفال" وهو مخصص للزوار والضيوف وداخل هدا الطابق نجد عدة غرف كما نجد بمحاداة البناية منطقة مخصصة للماشية وهو شيء لا يمكن الإستغناء عنه بالنسبة للمجتمع الصحراوي ويسمى محليا بالحوش" أو الزريبة" كما نجد حفرة كبيرة كان السكان المحليون يستعملونها في تخزين الحبوب إذا كان محصول السنة جيدا مخافة أزمات الجفاف التي كانت تكتسح المنطقة ويطلق على هذه الحفرة اسم " المتمورة" وكانت تستعمل تقنية خاصة لتخزين الحبوب في مثل هذه الحفرة وذلك بتفريش التبن لها حتى لا تتعرض للرطوبة وبالتالي تفسد؟ ونشير إلى أن عمق هذه الحفرة يبلغ حوالي مترين إلى ثلاثة أمتار أما العرض فيبلغ حوالي متر واحد هذا بالإضافة إلى البرج الذي هو مركز للمراقبة وكل التحركات حول المنطقة أنذاك.
إن اتخاذ البناء القديم لهذا الشكل لم يكن وليد الصدفة بل أملته العديد من الظروف والعوامل الطبيعية المتمثلة أساسا بالمناخ الصحراوي الجاف، الشيء الذي جعل السكان يلجأون إلى استغلال الوحات لتلطيف الجو من جانب أخر للقرب من الحقول الزراعية داخل الواحة تم لتشكيل تكثلات وتلاحمات لمواجهة الاخطار الخارجية نظرا للظروف غير مستقرة.